لم أكتب منذ فترة ولدي الكثير لأكتب عنه، لكنني من فرط تعبي تتبخر الكلمات من رأسي. أيام التعب هذه لا تمنحني حتى بعض الوقت للكتابة خصوصاً وأنها تتطلب مني مجهوداً يستنزف طاقتي فحتى حينما احصل وقت شاغر فأنني أكون متعبة وغير قادرة على ممارسة أي نشاط يتطلب مجهوداً آخر مثل الكتابة. الآن، وبعد لحظة بكاء طويل، شعرت بحاجة ملحة لأن أكتب. تقول سونتاغ: “أن تكتب يعني أن تبدد نفسك”، وهذا تحديداً ماأفعله. تمرني بعض الأوقات التي أتمنى أن يتبدد فيها العالم بأسره دفعة واحدة، أن أتخلى عن كل شيء في غمضة عين وأهرب بعيداً، و بينما تكون حقيقة الأمر أنني لا أملك خيار الإنهيار والتخلي هذا، فسأختار أن أبدد كل شيء حتى نفسي عن طريق الكتابة. أغامر بنفسي دائماً، ربما لأنني فشلت في أن أجد ذاتي واكتشفها اختار خسارتها والتضحية بها. في كل مرة أذهب بنفسي إلى الحافة و أبكي، كل يوم أعيش مواجهة شرسة مع مخاوفي. أحياناً أشعر برجفة في يديّ وقلبي ولكن هذا لا يظهر للعيان لأنه وبطريقة ما أظهر شجاعة لا أهاب أي شيء بينما أنا أعيش في هوة سحيقة داخل نفسي. حينما أنجو وابتعد عن الحافة، أجدني أذهب بكامل قوايّ العقلية إلى حافة أخرى وأعيد الكرة من جديد كأنني أدمن الشعور بالخوف أو الشعور بالإنجاز بعد تجاوزه.
(2)
ظننت الحب كـ بقية أحلامي يجب أن أسعى إليه و تؤذيني جداً فكرة أن سعيّ قد يكون سبب ابتعاده. يتحول شعور الأشمئزاز من الذات إلى شفقة عليها، كيف يهون شعوري إلى هذا الحد؟ لا أعيش دور الضحية، فأنا أيضاً كنت شريكة في حدوث هذه الإهانة لأنني سمحت بحدوثها. أصبحت أرى الحب كـ شيء نادر جداً لا يخصني ولا يمت لحياتي بأي صلة. زارني طيف من الأمل منذ فترة وحاولت التمسك به لكنني فقدته بطريقة قاسية. من الأفضل أن أبقي أحب “الحب” لكنني لا أقترب منه، كـ لوحة جميلة اتأمل تفاصيلها في عيون المحبين لكنني خارج الإطار تماماً، و كـ الكثير من الأشياء الجميلة التي تجبرنا الحياة على التخلى عنها.
(3)
استيقظت اليوم بصدر منقبض وخائف، اليوم الثلاثون من شهر مارس يعني أنه قد تبقى أسبوع واحد تحديداً على مناقشة رسالة الماستر. منذ أكثر من أسبوع وإنا أحاول ألا أفكر وأفوض الأمر لله كلما راودني خاطر سلبي عن الأمر. أحاول استعادة ثقتي وشعوري الطبيعي بالاستحقاق، وأحاول أيضاً تفهم حقي في المحاولة والتجربة مهما كان الأمر صعباً وأياً كانت نتيجته. هذه المرة الأولى التي اعمل فيها في مجتمع يضم جنسيات وخبرات متباعدة جداً، بمعنى آخر لا يوجد أي أرضية ممكنة للمقارنات. ليس من المنطق أن تقارن نفسك بطالب تخرج سابقاً من إحدى جامعات الصين أو أمريكا، وأنت تفهم ذلك جيداً لكن بعض الأساتذة لا يفهموا لأسباب عديدة قد يكون نقص المعرفة بطبيعة التعليم في المجتمعات الأخرى أحدها. لذلك تبذل مجهوداً مضاعفاً للوصول لكن الوقت يحكمك أيضاً. تعلمت بمرور الأيام أن أعمل دون أسمع كلمة تشجيع واحدة، وكل ارائهم ومعايير تقييمهم ستكون بعيدة جداً عن “كوني أنا” من الآن فصاعداً. لطالما ولا زلت أضع مساحة للشك والخطأ في عملي، حاولت أن أعرض أعمالي بلغة اليقين الشائعة بينهم. لهذا السبب لا أتوقع أن يكون أحد أعمالي موضع تقدير عالٍ بالنسبة لهم لأنني أريهم عيوبه بشكل أو بآخر!!
لا تخيفني الكتابة ولا أتوجس من التعبير عما اشعر به. الآلام البشرية متشابهة جداً، وطبيعة الشعور ثابتة في أصلها لا تتغير، لذلك نتمكن من إيجاد مسميات عامة في اللغة لتلك المشاعر :ـ الحزن والعطف، والوفاء، والحب، إلخ. هذا أيضاً مايجعل الكتابة تمثل عزاءً لكل مانمر به من ألم، تواسينا فكرة أن هنالك شخص ما في هذا الوجود يستطيع أن يصف ولو جزء مما نحن غير قادرين على وصفه. ربما يكون هذا سبب نشري لهذه اليوميات، وربما يكون لحاجة في نفسي لم أتمكن من الوصول إلى معرفتها بعد. اخترت أن أنشر يوميات فبراير لأنه الشهر الذي قدمت فيه الوجود، وسأحدث هذه اليوميات كل ماراودني خاطر الكتابة خلال هذا الشهر.
(1)
لطالما شعرت أنه لا يوجد مكان يناسبني على الرغم من كثرة الأماكن وإتساعها، ولا أعلم أين يذهب الإنسان حين يشعر أن كل الأماكن لا تناسبه؟ هل أقصد بالمكان وجهة محسوسة أو معنوية؟
في الحقيقة، لقد جربت الانتقال للعيش وحيدة والحصول على بعض الإستقلالية، وجربت أيضاً العيش وسط زخم عائلي، لكن هذا كله لم يفعل شيئاً سوى زيادة عمق شعوري بالتيه. منذ فترة قريبة، أجريت عدة مقابلات وظيفية بدافع الفضول وقياس مستوى مهاراتي. اتفق الجميع على سؤال “أين تجدين نفسك؟” وكانت أنا أتسائل ” ماهي الخيارات المتاحة؟”، لأن سيرتي الذاتية لا يغلبها نمطٌ ما، منذ فترة البكالريوس وأنا أجرب العمل في مجالات وعلى أفكار عدة بعضها متناقض نوعاً ما، وحتى الآن لم أتوقف عن التجربة. الغريب في الأمر أنه تم ترشيحي لكل تلك الوظائف!
على المستوى العاطفي،وجدت الشخص الذي شعرت بجزء كبير من ذاتي فيه. كانت تلك المرة الوحيدة التي شعرت بأن عقلي وقلبي يتفقان على شخصٍ واحد. لا زلت احفظ اعترافه كـ قصيدة نثر مفضلة أرددها دائماً، كانت هناك لغة مشتركة لم أجد عزاءً على فقدانها حتى الآن. لا يمكنني نسيانه لأنه نقطة تحول في طريقة فهمي لمشاعري، ولأن شخصاً آخر لم يتمكن من سبر أغواري في حديثه معي مثلما فعل هو. كنت قلقة بشأن أن أفقده حينما كان موجوداً، كنت أريده “الآن”، ولم أتمكن من الانتظار. الآن بعد رحيله، اكتشفت أنني لا أتمكن التوقف عن انتظاره حتى بعد رحيله وانقطاع خيوط الأمل. من الأرجح أنه كان سيبقى لو كنت هادئة وتركت الأمور جانباً حتى تأخذ مجراها، لكنه قلقي.
(2)
أشعر بالتعب، عينايّ تؤلمني بعد قضاء حوالي 10 ساعات أمام شاشة الحاسوب. قررت الجامعة أن الأسبوعين الأولى من هذا الفصل ستتم عن بُعد. لدي ثلاث مواد دراسية بالإضافة إلى بحث التخرج، كل منها في مجال جديد لا أعرف عنه إلا الفتات،وأحدهما تتطلب العمل بلغة برمجة لم أجربها من قبل. عانيت كثيراً في الواجب الأول لضيق الوقت، اليوم بعد صلاة الفجر أتممته وقمت بتسليمه، ثم كان ماراثون المحاضرات الطويل. أحياناً أشعر أنني فخورة بنفسي، يمر أمام عينيّ حلم “الدكتورة الصغيرة” لكن فجأة أتذكر اقتباساً قرأته في أحد الكتب وقد أثر بي كثيراً حينها: “كل مايضيف للذات هو عبء مثلما هو مفخرة”. أعود أحياناً للميزان المتذبذب في داخلي بين الرضا والطموح، هذا السؤال الذي يلازمني منذ سبع سنوات وفي كل سنة اقترح إجابة جديدة. ربما هو سن العشرين حافل بهذا النوع من الضياع، وددت أحياناً لو أنني قفزت مباشرة إلى سن الثلاثين حيث توجد هناك – كما أتأمل- النسخة الجميلة من المرأة التي أود أن أكونها.
(3)
لا أؤمن بفكرة الفوز والخسارة في العلاقات، كنت ولا زلت أراه شخصاً رائعاً أتمنى وجوده لكن الله قدر الرحيل ومن المؤكد أن في هذا القدر حكمة أجهلها. أعذره و أتفهم صعوبة موقفه ومدى شراسة صراعاته وتساؤلاته الذاتية. لكنني في بعض الأحيان أفكر أنه يجدر به أن يشعر بأنه محظوظ لأنني أحببته، وأتسائل كيف له أن يترك هذا الحب؟ ربما تكون الإجابة هي معضلة أن يجد المرء الحب قبل أن يجد ذاته. أفهم هذا جيدأو أكرر أنني لا ألومه، ولا يوجد أي ضمانات باستمرار الانتظار عبر مرور الزمن. أتجاوزه ولست أنساه، لأنني أحبني بما يكفي لأن ابتعد عمن يختار الابتعاد عني حتى لو كانت في صدره شرارة من رغبة. كان من للمفترض ألا ألتفت، ألا أرضى بالقليل بينما أنا فياضة جداً وجداً بالحب.
(4)
أتمنى أن لا تخيرني الحياة بين الإنجازات الشخصية والحب.
(5)
عقلي وقلبي متوازيان معظم الوقت، بقدر ماأسعى أن أعيّ وأفهم بقدر مايذهب شعوري في الإتجاه المعاكس. ماأشعر به لا يعكس ماأعرفه في معظم الأحيان.ذكية لكنني في الوقت ذاته فياضة بالعواطف وحساسة جداً. أتسائل عن القدر المطلوب الذي أحتاجه من التجارب الصعبة والمتنوعة حتى تتقلص هذه الهوة السحيقة؟
الأذكياء العاطفيين جداً يقعون في فخ الإشمئزاز من الذات، حيث أنهم على درجة عالية من الوعي بعواطفهم لكن لا يوجد سبيل ممكن حتى الآن لإخفائها. لطالما كنت أشعر بأريحية واسعة في التعبير عن مشاعري وأحب ذلك، لكنني مؤخراً وقعت في فخ الإشمئزاز، لماذا أبقى وفية ومحبة لشخص اختار الإبتعاد عني؟ ماالذي يحدث؟ لماذا لم يختفي الشعور مثلما اختفى هو؟ ماالهدف من هذا التناقض بين الحضور والغياب؟
(6)
أحببت كتابة اليوميات لأنها تسمح لي بنقل تفاصيل الحياة اليومية و عبئها إلى سياق أدبي جميل.
(7)
أغلق ملفات الدراسة على حاسوبي بعد يوم طويل واستعد للنوم، لكن قبل ذلك أتناول جرانولا الشوفان، أشرب البابونج، استمع إلى أغنية لنجاة الصغيرة، واعد نفسي أن أنجز ماتبقى من مهام اليوم غداً.
(8)
أحببت مادة Computer Vision منذ بداية هذا الفصل، دكتور برنارد لديه أسلوب رائع في شرح المحتوى، يفتح بصيرتي على جوانب أخرى لأشياء أعرفها مسبقاً، وبالتالي أشعر وكأنني أدرسها للمرة الأولى. اجتمعت اليوم مع أحد الـ TAs ليساعدني في تأسيس نقطة انطلاق لمشروع المادة الذي يشغل 70% من التقييم النهائي. أتمنى من أعماق قلبي أن يتكلل هذا المشروع بالنجاح.
(9)
بالرغم من الضغط الدراسي، أحاول الاستمتاع بالدراسة بدلاً من التفكير في النهاية، فالمهم هو أن أتعلم لا أن انتهي سريعاً. أريد أن اعتاد هذا الضغط وأن أصنع أسلوب حياة يناسبني ويناسبه، لا أريد أن أفكر في الأمر وكأنه حمل ثقيل انتظره أن يمر، فهذه الأيام محسوبة من عمري.
(10)
مشاعري تنكمش بمرور الأيام، وأعتقد أن هذا هدفه من البعد. لا أحب دور الضحية أبداً لكن كان بإمكانه أن يخبرني بأنه يفضل خيار البعد حينما أخبرته أنني أرفضه، لكنه ظل صامتاً وتركني فريسة تساؤلات ممتدة عبر الزمن. استغرق الأمر شهوراً حتى يخبرني أنني مجرد “شخصية خيالية” يعطل وجودها سير حياته. تنازلت وألقيت باللوم كله على نفسي حتى أشعر أن هنالك خطأ ما كان سبب كل ماحدث، ولأنني أحب أن تنتهي الأمور بودٍ ولطف ودون أن تتحول المشاعر الجميلة السابقة إلى كره.
(11)
يشهد التاريخ على أن الكتابة وسيلة للخلود، لكنها أيضاً طريقة للاستغناء والاستسلام. أنقل المشاعر من فضاء لآخر، من سجن صدري إلى رحابة الصفحة البيضاء حيث يمكنها استيعابها. ممتنة لكوني أمتلك صوتاً خاصاً في الكتابة، وكأنه يوجد حنجرة ما داخل صدري تتكلم وأنا أكتب ماتمليه علي، و أحب رغماً عن الضعف أنني امتلك تواصلاً فريداً بيني وبين ذاتي.
(12)
لا أحب خطابات الاكتفاء الذاتي المتحمورة حول الذات. أحتاج يداً ترافقني خلال الرحلة، لكن ليست تلك التي أفلتت يديّ.
(13)
يظن البعض أن الفتيات الغارقات في الدراسة أو العمل يفقدن عواطفهن بمرور الأيام وأنهن بعيدات تماماً عن الحب. لكن الحقيقة عكس ذلك، فكل مايقمنَّ يعتبر واجهة يهربن خلفها من ذواتهن ومشاعرهن.
(14)
دائماً مايكون الألم دافعاً أقوى للكتابة من السعادة. أعادتني أزمة الوقوع في الحب خلال الفترة الماضية للكتابة والآن أحاول الحفاظ على سلاستي في السرد. كنت أفيض بالكلمات، أما الآن فقد هدأت نفسي واستعدت توازني ونهضت من جديد بنفس أكثر نضجاً. ركضت بإتجاه ما كنت أريد نهايته بشدة حتى وصلت إلى بابٍ مغلق، وكنت أكتب لأقول كل مالم أستطع قوله وبقي عالقاً في صدري. أعتقد الآن أنه حتى لو تبقى كلام ما في صدري فالأمل المقرون به قد تلاشى.
(15)
لم أدرس اليوم كثيراً، يفترض أن أذهب غداً إلى الجامعة إن شاء الله وبالتالي أصابني ذلك التسويف الذي يدعوني للعمل حين أكون هناك. تأثرت كثيراً بحادثة الفتى ريان المغربي، وها هو اليوم ينتهي ولم يصلني خبر خروجه. كنت أحدث صفحة الوسم الخاص به في تويتر طوال اليوم أملاً في أن أجد خبر خروجه. اسأل الله أن يخرجه من تلك الحفرة سالماً معافى في أقرب وقت ممكن.
(16)
منذ أكثر من شهرين وجدتي موجودة في منزلنا، و قهوة الظهرية تعد أحد طقوس تواجدها في المنزل. أحب هذه الفقرة كثيراً خلال اليوم، أصلي الظهر وأذهب لاحتساء القهوة معها. اليوم كانت تستمع لمحطة نداء الإسلام في الراديو الخاص بها، كان برنامج يحلل معاني خطبة الحرم المكي يوم أمس، الجمعة. لوهلة شعرت أن المذيع وضيفه ومستميعهم منفصلين عن العالم ويسبحون في فضاء ما لوحدهما. كانت جدتي تستمتع بتركيز شديد وتطلب مني التركيز معها في بعض المواطن لأستفيد.
(17)
أشعر بأنني ضعيفة وخائفة، متورطة بنفسي، انكمش واتقلص شيئاً فشيئاً حتى أصبح متكومة في جزء صغير داخل رأسي. عدت اليوم إلى سكن الجامعة بعد أن قضيت أكثر من شهر مع أهلي، إنه الانتقال من الصخب إلى الهدوء التام الذي يدل عليه الغبار المتراكم فوق أجزاء الشقة. جلست على الدرج أحاول استيعاب أنه لا يوجد أحد هنا سوايَّ، تماسكت وتذكرت أنني فتاة قوية، شغلت سورة البقرة بصوت المعيقلي كالعادة، ولأنني لا أحب سوى الطعام الذي أعده فتحت الثلاجة وكتبت قائمة الأشياء الناقصة، ذهبت إلى السوبرماركت وأحضرت كل شيء وعدت المنزل، شغلت المكنسة الكهربائية ونظفت المكان. بعد ذلك كله، عدت إلى ضعفي، فكرت في صعوبة المواد الدراسية، في دوافعي وأحلامي التي قادتني إلى هذا الركض المتواصل. أعود فأرفع صوت القران حتى لا أتمكن من سماع صوتي الداخلي. أحتاج أن أتعلم الطمأنينة، أن أضع أفكاري واحتمالاتي جانباً لأعيش حياتي حقاً، أن أتعلم أن ألقى دهري غير مكترثة به، فـ الله قدر كل هذه وهو كفيل به، خصوصاً أنني أحاول السعي قدر المستطاع.
(18)
لست أحب كتابة اليوميات فقط بل تصويرها أيضاً. أملك منها مايشكل مخزون ذكريات لأبنائي في المستقبل. يوجد في الجامعة مكتبتان وهما أقرب الأماكن لقلبي، أقضي فيهما ساعات طوال للدراسة أو القراءة. كل واحدة منهما تشهد على عثراتي ونجاحاتي في هذه المرحلة من حياتي.اليوم وبعد انقطاع طويل زرت واحدة منها لأجدد الألفة بيننا من جديد.
(19)
أحب قضاء ساعات الصباح الأولى بمفردي وذورة إنجازي خلال اليوم تكون فيها. الصباح يعني البداية والبداية بالضرورة تعني غفران ذنوب النهاية السابقة، أحاول استقبال العالم من جديد في صدري، أضعه في الداخل وأهرع أنا إليه لأسمح له بالتغلغل فيّ أكثر حتى أصبح جزء منه وهو جزء مني.
(20)
لم أتمكن من الكتابة منذ أكثر من يومين، ضغوطي الدراسية تتفاقم وأحاول أن أكون هادئة، أفوض الأمر لله أكثر من عشر مرات خلال اليوم، أذاكر طوال الوقت وأؤجل حياتي بكاملها إلى أجل غير مسمى، أحاول ألا أفكر كيف سأنجز كل هذا وأركز على اللحظة الراهنة واستمر في العمل. شعوري بالإستحقاق يصل إلى مستويات سالبة وميزان الرضا والطموح لا زال يختل كثيراً. العالم من حولي يطلب المزيد وأنا موجودة في القاع حالياً، لا يمكنني الصعود بشكل مفاجئ، أحاول أن أتعلم شيئاً فشيئاً مع مراعاة قيود الوقت، ربما أنا غبية حقاً لكنني أريد أن أحقق إنجاز أن يجتاز هذا الطريق شخص غبي.
(21)
كل الأشياء قادرة هذه الفترة على أن تؤذيني بما فيهم أنا والناس حولي والجمادات، ولا أملك أي أجهزة دفاع أو مقاومة.
(22)
نهاية هذا الأسبوع تشبهه، طويلة ومرهقة. اليوم هو أحد الأيام التي راودتني الرغبة بالإختفاء والتلاشي. أحياناً أشعر أن سبب معاناتي خلال هذه الفترة هو غياب الحب لأنني لطالما احتملت فترات طويلة من الضغط الدراسي بشغف و دون تنازل عن حلمي. أشعر أنني تهشمت وغير قادرة إلى العودة كما كنت عليه من قبل. ظننت أنني وجدت الحب الدفين في داخلي ثم تبين أنه سراب سرعان مااختفى. العالم يركض من حولي وأنا في مكاني أحاول لم شتاتي وتكويني من جديد.يقيني بالله يمنحني الأمل أنه يوجد فرج ما سيأتي لكنني لا أعرف ماهيته. أتمنى أن يأتي قريباً لأن الأيام أصبحت ثقيلة على قلبي.
(23)
على عكس الأمس أشعر اليوم أنني مستأنسة بكوني أنا وسعيدة في اللحظة الراهنة. أحب تعبي، طريقي المختلف بنظرة عينايّ، محاولاتي الغير متوقفة، ثوراتي العاطفية واللحظات التي استعيد فيها حكمتي بعد أن تهدأ، واستسلامي حين يجب ذلك. أنا وذاتي نشبه الأم وطفلها، دائماً تشعر بالسعادة والامتنان معه، ولكن في بعض الأحيان تشعر بأنها متورطة و تتوق للهروب ولو لساعات قليلة.
(24)
توقفت عن الكتابة عمداً لأحاول أن أنساه وأغير شعوري تجاهه، وكل محاولاتي تصل إلى وجهة مغلقة فأعود للوراء أحمل ثقل خوفي وشوقي. متى ستتبدد هذه الأوهام؟ ومتى سيتوقف هذا الاستنزاف العاطفي؟ أحياناً أشعر أنه قريب جداً في مكان ما لكنه خائف ويشعر بالذنب. من المؤسف أنني لا أعرف طريقة ما لمنحه الشعور بالأمان، لا يمكن الاقتراب من شخص لا يريد حتى المحاولة. لم أتمكن من تقبل أي شخص آخر سواه، لم يتمدد أحد في قلبي مثلما فعل هو. بالرغم من معرفتي أن كل شيء قد انتهى ثمة ضوء أمل لا أعرف مصدره. أتمنى من الله أن يريني الحقيقة.
(25)
كانت ليلة الأمس جميلة جداً بالرغم من تعبها، كان الجو بادراً عليلاً وهادئاً أيضاً. بدأت بفكرة راودتني وأنا أدرس في غرفتي، طلبت من شريكتي في السكن أن نذهب سوياً لاستكمال الدراسة في المكتبة العامة وتجلس كل منا في زاوية مختلفة عن الأخرى حتى لا نشغل بعضنا بالأحاديث العابرة عن الدراسة. أحب هذا النوع من المشاركات الصغيرة، أشعر بالألفة حين يكون هنالك شخص ما أستلطفه في مكان قريب مني، ليس بالضرورة أن نتواصل، أحياناً المشاركة في الصمت بدلاً من الكلام هي كل مانحتاجه حين لا نملك مانقوله فعلاً لكننا نريد من يشاركنا الوجود.
(26)
هذه المرة أريد أن أكتب وحسب. انهال عليّ هذا الأسبوع وابل من الواجبات والأشغال الدراسية. أحتاج إلى الطمأنينة، أخاف من نفسي وأوهامي أكثر من أي شيء آخر، أخاف أن أخذلني، أخاف من عدم قدرتي، أخاف أن لا أصل رغم محاولاتي المستمرة. هذا القلق يؤذي حتى جسدي. أحياناً أتوقف عن الدراسة وابدأ بالبكاء، يؤذيني شعور عدم الفهم، يؤذيني الوقت الضئيل المحدد لتعلم كل تلك الأشياء الغريبة علي. لا زلت أؤمن أنني استطيع أن أتعلم الطمأنينة، لكن الطريق طويلٌ جداً وإحساسي المرهف بالأشياء يعيقني.
(27)
أعرف أنني حمقاء لأنني متعبة وأحب شخصاً متعب ولا أتمنى وجود شخص سواه، ربما كانت رحمة الله تقضي ألا يجتمع المتعبين.
(28)
رأسي بأكمله بؤلمني، عيناي، أذني، و رقبتي. هذا ماشعرت به اليوم قبل أن أقرر أن أترك المذاكرة قليلاً وأخرج للمشي دون وجهة محددة. تفاجأت أن الجو كان عليلاً بصورة نادرة لأنني منذ اللحظة التي استيقظ فيها أجلس أمام شاشة الحاسوب لأبدأ جولة الركض الذهنية اليومية ولا أعلم شيئاً عن العالم الخارجي حينها. شربت قهوتي المفضلة، مشيت طويلاً في أنحاء الجامعة وانتهى بي المطاف في المكتبة العامة كالعادة. في الحقيقة لم استطع التوقف تماماً عن الدراسة، فقد حملت جهاز الايباد معي وحاولت القراءة قليلاً أثناء جلوسي في المكتبة. حجزت موعداً لدي طبيب الأعصاب الذي زرته السنة الماضية بسبب ألم مشابه، لكن لايزال لدي قبله امتحان وموعد تسليم الواجب الثاني في أحد المواد وأشغال بحث التخرج تتكاثر كالعادة. ربما هي أزمة من يعيش داخل رأسه. أعرف أن هذا الوقت صعب جداً لكنه في الوقت ذاته فرصة لأن اتعلم الطمأنينة. أريد لقلقي أن يهدأ، وأتمنى أن تجعلني هذه التجارب الصعبة المتتالية شخصاً أفضل حتى لا أشعر بالمزيد من الخذلان والألم.
لطالما كنت استعمل الكتابة كوسيلة للتخلص من آلامي ودفعها خارج صدري. أتوقف عن الكتابة حين أكون سعيدة، وأرجح أن السبب عائد إلى استغراقي في اللحظات الجميلة، حيث لا رغبة لدي في الخروج منها. بينما في أيام الحزن والملل أحاول استعياب مايحدث عن طريق تدوينه مما جعل يومياتي تبدو كـسلسلة من اللحظات الحزينة و خالية من الأجزاء الجميلة من حياتي. الآن أدرك أن الأيام الهادئة والجميلة تستحق التوثيق أيضاً حتى تشكل عزاءاً وضوءاً في نهاية النفق في الأيام الحزينة. في الحقيقة ليس هذا الإدراك وحده ماجعلني استرسل في الكتابة، بل صديقة رائعة تذكرني بهذا الجزء الرائع من ذاتي كل ما حاولت ضغوطي الدراسية انتشاله مني. هذه أحد فوائد الأصدقاء، يذكرونك بذاتك كلما شارفت على خسرانها ويساعدونك في ترميمها كلما بعثرتها الأيام. هاأنذا أعود بنسخة أخرى مني، طالبة دراسات عليا شابة تقاتل من أجل أحلامها، تتعلم الحذر من براءتها، تقاوم شعورها بالحرمان العاطفي، و تؤمن أن الطريق إلى محبة الذات واكتشافها طويل جداً وبالرغم من مخاوفها من عدم الوصول إلا أنها متيقنة من عدم خسارتها لشرف المحاولة.
تذكرني فترة الدورة الشهرية بالألم المغروس في أجساد النساء، ألم حتمي، متكرر، و متواصل، تعجز عنه أحياناً كمادات الماء الدافئ، أقراص المسكن، والمشروبات الحارة بأنواعها. في بعض الأشهر أتوقف عن اتخاذ أي إجراء ضدها واقرر احتمال الألم. غياب هذا الألم قد يعني حدوث مشكلة صحية قد تُحدث ألماً أكبر، لذلك نشعر بالامتنان حين يسير هذا الألم في دورته المعتادة بشكل مستمر. جزء من تجربة الإناث أن يكون الألم جزء لا يتجزأ من أجسادهن وكأن الجزء الأكبر منه في الكون من نصيب النساء، قد يكون هذا ضريبة الجمال؟ ربما، قد يفسر الإجابة سعيَّهن من أجل عمليات التجميل المؤلمة ليصبحن أكثر جمالاً، يفقد الألم هيبته أمامهن. أنا لست مثل هولاء النساء، بالكاد احتمل الألم الذي يفرضه عليَّ الوجود. أعرف أنني عاطفية بطبيعتي لكن العاطفة تتضخم خلال هذه الأيام القاسية والحتمية. ينتج هذا التضخم لأن الألم يتخطى الجسد ليصل إلى الروح، يستدعي الذكريات المؤلمة، يولد مشاعر غريبة وغير مفهومة، يشعل نوبات الغضب والبكاء، وأحياناً تظهر أعراض جديدة لا أعرفها. أشعر أنني أصبح هشة وقد أتهاوى في أي لحظة، أستسلم للضعف، أتناول الشوكولاة، اتوقف عن ممارسة الرياضة، أتخلص من المشاعر السلبية في صورة كلمات، وأبكي في معظم الأحيان. خلال فترات العمل أحبس الدموع في عينيَّ وأتنفس الصعداء كل حين حتى أصل للمنزل وأنهار. أفكر أحياناً بوجوب إجازة النساء من العمل في اليوم الأول لأن تكرار حدوث هذا الألم لا يعني أنه عادي أبداً. في الحقيقة لا يمكن أن يكون عادياً.
(2)
لا أعرف الشعور بالحب، لكنني أعرف الشعور بالخذلان، هيئة الصمت حين يكون جواباً، الكيفية التي يقترب بها شخصاً ما ثم يقرر الابتعاد فجأة بعد أن سرق منك الأمان و زرع الخوف بداخلك، و الإنسان حين يتم التعامل مع وجوده بصفته “وهماً”. بناء على معرفتي القاسية، أوضحت لنفسي أننا لا نحتاج الحب لنمضِ قدماً، ربما تغدو الحياة صعبة حين يكون المرء وحيداً، لكن السعادة ليست مطلب أو هدف.
(3)
أطمح أن آلفَ نفسي وأحبها، أحاول أن أجلس معها محاطين بجو من الملل والفراغ الشاسع، لا أريد أن استعين بأي مؤثرات خارجية لتفض النزاع القائم بيننا. أشعر بالأسى حين أعدد الأخطاء الفادحة التي قد اقترفتها سابقاً، لن يعيد تأنيب الضمير والندم أي شيء قد مضى، لابد من أن نصل إلى نقطة تصالح ما. أعرف تاريخي و ضعفي وأحاول أن أحبني رغماً عن الأمور السيئة التي حدثت خلالهما. الطريق طويل جداً، والكثير من التجارب ستعيقني خلاله، لكنني أعلم أنني سأصل وهذا التخبط سيتوقف على أرضٍ ثابتةٍ ومتوازنة.
(4)
استيقظت باكراً صباح اليوم، فكرت فيما سأفعله وكتبت قائمة المهام، تفقدت جدول تماريني الرياضية لليوم، مارست اليوقا، واتبعت طريقة جديدة لطهي البيض هذه المرة. تناولت طعام الإفطار في صمت عميق، لا تصلنا أصوات العصافير في هذا المنزل، نعرف الصباح من خلال الشبابيك، لم افتح النافذة وقتها. راودتني رغبة في البكاء، البكاء الذي يتبع شعور الندم تحديداً. بكيت من تأنيب الضمير، عجزي عن المضي في الطريق الصحيح رغم معرفتي به، حساسيتي المفرطة ناحية الأشياء، سعيَّ المنهك نحو الكمال، رغبتي في الحب الذي لم أحصل عليه أبداً ومحاولاتي الفاشلة للحصول إليه، حماقاتي المتكررة، أسلوبي في التعبير الذي يزيد الأمر سوءًا، انفصالي عن الواقع، غربتي التي شعرت بها منذ كنت في الثالثة من عمري، شعوري بالضيق من حتمية الألم في الوجود، حتى حبي للحياة بكيت منه. ومثلما يحدث دائماً امسح دموعي واستجمع قوايَّ لأعيد المحاولة من جديد أملاً في وجود ضوء ما في نهاية هذا النفق.
(5)
جزءٌ كبير من السعادة يرتبط بالأيام الرتيبة، يعد حدثاً جيداً أن لا يحدث شيء سوى أحداث الحياة اليومية المعتادة. أعيش أياماً مشابهةً حالياً وأشعر بإمتنان عظيم حيالها، لكنني أفقد أقدر على الكتابة حين أكون سعيدة وهادئة، لا يوجد شيء أحاول مقاومته، كنت قد استسلمت لكل مايحدث.
(6)
أحياناً أتمنى لو أعيش على سطح الحياة بدلاً من الغوص في الداخل والبحث المضني عن معنى كل شيء حولي. أنظر للحياة مثلما أنظر لشخص ما بعينه لكنني لا أفكر فيه، بل أكون شاردة الذهن في شيء آخر تماماً، يتعجب ظناً أنني أحدق فيه فاضطر للإعتذار وأشيح بنظري بعيداً. هكذا يحدث دائماً، لم أتمكن من عيش لحظات متواصلة يتقاطع فيها حضوري مع شعوري، كنت ولا زلت بعيدة في مكان ما، ظننت أن الحب سيلملم أجزائي المتناثرة في حياتي، لكنني لم أحصل عليه أو بالأحرى حصلت على نسخة مشوهة منه. كانت النتيجة أنني أصبحت منفية، كل جزء مني يعيش إما في زمن آخر أو مكان بعيد جداً. أحياناً أتمنى أن أجرب الغربة، أشعر أنها تلائمني، أو على الأقل سأكون منفية وغريبة حقيقية حينها.
(7)
دائماً ماتقودني مشاعرالامتنان للبكاء، امضي اليوم بأكمله أتذكر النعم المحيطة بي واحصيها حتى تفيض عينيَّ في نهاية المطاف.
(8)
يتكرر الأمر كثيراً في الأونة الأخيرة. استغرق في التأمل حتى أشعر بالدموع في عينيَّ، أشعر أن قلبي صافٍ تماماً وكأن مجريات الحياة لم تغير به أي شيء. يُخيل لي أن صدري شفاف وأن المدى يحتوي فراغ شاسع على الرغم من الصخب، الأضواء، الجمادات، والأشخاص المنتشرين في كل اتجاه. منذ يومين وأنا أحاول وصف مايختلج في صدري لكن لا لغة لدي تكفي لذلك. ألا يكون ذلك شكل الطمأنينة، الطمأنينة التي حجبها الانتظار والقلق طويلاً عن قلبي؟ أو هي مرحلة يأس يتساوى فيها الوجود مع العدم؟
(9)
البكاء بسبب اليأس
(10)
أشعر أن الحياة لا تناسبني.
(11)
غلو وتطرف عاطفي بشكل مؤذٍ جداً.
(12)
كنت ولا زلت أؤمن أن للرضا مرتبة أعلى من السعادة. ولأن الحياة تجبرني على اتخاذ طرق لا أريدها أحياناً، أفضل أن اسأل نفسي إن كانت راضية بدلاً من أكون سعيدة. أكره الشعور بالضيق والحسرة بسبب غياب الأشياء الناقصة، بينما في المقابل أشهد وجود العديد من الأشياء الرائعة والمدهشة في حياتي، لا يلغي الحضور المتكرر للأشياء الموجودة خلال الروتين دهشتها في نظري، معظم الألم الذي أشعر به سببه أنني لا أفقد الدهشة أبداً. لو أردت لشيء ما أن يكتمل فعلاً فهو الشعور بالرضا ناحية النقص والفقد، لكن يبدو أن الرضا مثل أي شيء آخر في الحياة، لا يكتمل.
خرجت من عنق الزجاجة وتخرجت من الماستر، أعيش الآن أياماً هادئة لم أنعم بوجودها منذ فترة قد تكون طويلة. عودتني أيام الزخم الدراسي على تسجيل مهامٍ يومية تساعدني في إدارة وقتي المزدحم، ولم تتوقف هذه العادة حتى الآن. أعددت البيض المقلي بالزبدة على وجبة الإفطار بعد أن انقطعت عن تناوله منذ مدة، أنا كائن روتيني جداً، يكرر نفس العادات لفترات طويلة جداً حتى تقترب لأن تصبح أبدية ثم يرادوه شعور بالغثيان منها ويبحث عن بديل آخر، تناول البيض على الإفطار يعد مثالاُ جيداً لهذا الأسلوب المعيشي. بعد الإفطار كتبت قائمة المهام، عقدت ضفيرة شعري كالمعتاد ثم تذكرت أنني أحب تسريحة ذيل الحصان مع تقاسيم وجهي واليوم رائق ومناسب لفعلها. كانت قائمة المهام تحتوي على مجموعة من الأنشطة الباعثة للهدوء في نفسي، أحدها قراءة ثلاثة فصول من رواية “الجريمة والعقاب” لـ دوستويفسكي، بدأت قراءتها منذ خمسة أيام حين كنت لا أزال في الحرم الجامعي، كانت هي و رواية “الحياة في مكان آخر” لكونديرا الكتابان الورقيان الوحيدان في حوزتي هناك، وكنت أشعر بالحنين إلى قراءة نسخة ورقية من كتاب ما يعجبني فاخترت الجريمة والعقاب بالتأكيد. في البدء شعرت بأنني نسيت الكثير من أجزاء الراوية، ولكن اليوم راودني شعور بالملل وأنا اقرأ مشهد قتل العجوز وأختها من قبل راسكولنيكوف، لم أتوقف عن القراءة لأنني أردت الالتزام بقائمة المهام كالعادة، وبالرغم من أنني لم انتهي من قراءة الفصل الثاني انتقلت لمهمة أخرى وهي متابعة الحلقة الأولى من مسلسل Horace and Pete. إحدى الزميلات الإفتراضيات امتدحته كثيراً حتى أثارت في نفسي فضول متابعته واليوم قد بدأت في ذلك فعلاً. في الحقيقة، الحلقة الأولى مملة جداً لكنها في المقابل تبدو مناسبة ليوم هادئ كالذي كنت أود أن أعيشه. لفت انتباهي أحد المشاهد الذي كان يصور بشكل ضمني الصراع بين الجيل الجديد والقديم على المحافظة على الأمكنة العريقة و الموغلة في القدم. لدي ما أكتبه عن هذا المسلسل لكنني لا أود الاستفاضة عنه هنا وربما في أي نص آخر.
(2)
تجرنيَّ الأيام الهادئة نحو حالة من الانفصال عن الواقع وأنا استسلم لها حالياً. أود نسيان كل ماحدث سابقاً، لكنني في المقابل أشعر برغبة عارمة في السرد، أريد أن أسترسل في شيء ما، أحياناً أشعر أن يومياتي لا تستحق الكتابة لكنها على الأقل تمنحني مادة لا نهائية لإشباع هذه الرغبة في الكتابة، ربما هي تجربة الحب العقيم مافتح صنبوراً من الكلمات في رأسي، أو لأنني لا احتمل الشعور باللاجدوى أحاول فعل شيء ما أقاوم من خلاله تأثير الزمن. أريد أن أكتب بسلاسة و دون أي مجهود يُذكر أو محاولة اختراع فكرة ما. دائماً مايرتبط شوال بصيام مافاتني خلال رمضان، قبل يومين تمنيت أن يُعاد رمضان هذه السنة مرة أخرى لأنني عشته تحت وطأة ضغوط دراسية أفقدتني الشعور بالزمن. اليوم هو أول يوم أصومه في شوال، النهار طويل وممتد جداً، لما انهض من السرير إلا عند الواحد ظهراً لأداء صلاة الظهر، كنت مستقلية اقرأ نسخة الكترونية من رواية “قلق الأمسيات” في هاتفي بعد أن فقدت الأمل في إيجاد نسخة ورقية منها، شعرت بدوار في رأسي من أثر القراءة في الظلام حينما نهضت بعد أن قرأت أربع فصول من الرواية.
(3)
أعادتني قصة “قلق الأمسيات” إلى سيناريو وفاة أبي رحمه الله. تحكي بطلة الرواية الصغيرة عن الفراغ الشاسع الذي خلفه وفاة أخيهم الأكبر عشية عيد الميلاد. عنوان الرواية عبقري وتتجلى رمزيته بعد المرور بفصول معدودة من الرواية، توقفت العائلة عن الاحتفال بأعياد الميلاد بعد هذا الحادث، و بطلة الرواية تعجز عن النوم خلال الليالي التي يذهب فيها الوالدين إلى أمسية ما لأنها تخاف أن تفقد أحدهما، كأن أي تجمع ينذر بفقدان أحد أفرداه، كأنهم اجتمعوا واحتفلوا سوياً حتى يودعوه. أعرف هذا القلق لأن العائلة بأكملها اجتمعت في شكل يندر حدوثه قبل وفاة أبي بأيامٍ معدودة، و مضى وقت طويل جداً قبل أن تجتمع العائلة الكبيرة مرة أخرى.
(4)
أشعر اليوم أنني انكمش، أريد أن أفكر بعيداً عن تأثير كل شيء من حولي، أتمنى لو امحص رغباتي جيداً وأعرف إن كانت رغبات حقيقية أو مدفوعة بشيءٍ ما. أحياناً أفكر باستحالة تجريد رغباتنا و رؤيتها بشكل صافٍ وبعيد عن المجتمع الذي يحيط بنا، ربما تكون هذه مشكلتي أنا فقط، لا أعرف، وأحتاج المزيد من الجهد لأصل إلى مكنون نفسي. في المقابل تمنعنا الظروف أحياناً عن تحقيق رغباتنا و أحلامنا، لربما حدث هذا المنع لأننا كنا نعيش في وهم ما و يجب علينا أن نغير وجهتنا. في أيام كهذه، لا أفعل شيئاً سوى أن أطرح من المزيد من الاسئلة، لا تهمني الإجابات ولا أبذل الكثير من الجهد للبحث عنها، يعجبني فعل التفكير والاحتمالات المفتوحة، قد يكون هذا عاملاً مهماً تسبب في عدم إيجادي لذاتي حتى الآن. تؤذيني توقعات الآخرين من حولي، أحاول أن أكتشف ماأريده حقاً، ولكن كيف يمكنني الاكتشاف وأنا لا أملك الكثير التجارب الداعمة، أليس من الأسهل أن أترك لهم الاختيار بدلاً عني؟ أو أن أتبع رغباتي اللحظية والعابرة؟ لا أعرف.
أصبحت أهرب من الجلوس مع نفسي وأبحث عن الصخب من حولي كي أتمكن من نسيانه، وإن كان لابد من ذلك الاختلاء فإنني استغل مشاعري من أجل الكتابة، هذا أنسب حل توصلت إليه حتى الآن حتى أتعايش مع هذا الحب العقيم. للشوق نوبات مثل نوبات الهلع، راودتني بالأمس إحداها، حاولت أن أبقى صامدة دون ارتكاب أي تصرف أحمق، تذكرت أن الذات التي أملكها أمانة من الله عزوجل، يجب أن أحبها بما يكفي لأن لا أجرحها مجدداً، لا أود أن أشعر بأنني خسرتها مثلما شعرت خلال الأشهر الماضية، وأنا بالكاد الآن أتحسس طريق العودة إليها. هناك أمل بالنسيان والمضي قدماً وهناك أمل آخر بالعودة ولابد أن ترجح كفة الشعور الأول منهما. لن يحدث ذلك بإنكار شعوري ناحيته، بل باستذكار حقيقة أنني أريده ولكن أريد ذاتي أكثر منه.
أعرف معاناة الأشخاص العاطفيين الذين يكرهون أنفسهم أحياناً بسبب عواطفهم المتدفقة في كل الإتجاهات، وتحديداً ناحية الإتجاهات الخاطئة لأنني منهم. يتفاقم حجم هذه المعاناة حين أعيَّ بها ولا أعلم ماذا أفعل حيالها، و أتمنى أن يصحح هذا الوعي إتجاه مشاعري الصادقة والمنهمرة على أراضٍ لا تستحقها. كنت قد عاقبت نفسي بأن كرهتها، لكن هذا الكره لم ولن يغير أي شيء من حقيقة كوني فتاة عاطفية جداً. أعرف ضعفي جيداً وأراه بعيون زرقاء اليمامة كل يوم. لا يبدو تجاوز الشخص بحد ذاته صعباً لأن الصعوبة تكمن في نسيان الطريقة التي تم تجاهلك بها و كأنك صخرة اعترضت الطريق و وجب إزاحتها جانباً أو كـ طيف عابر يراود رأس شخص مجنون، ونسيان اللحظة التي أشفقت بها على ذاتك وأدركت إلى أي هاوية أوصلك ضعفك. لربما صنعت شخصية خيالية في رأسي وأحببتها أو لربما أحببته فعلاً، لا يهم، لأنه لا يمكن للإجابة الصحيحة أن تغير أي شيء. مايهمني فعلاً هو هذا الألم الذي يشبه الصَّدْعُ.دائماً مايبدو الكلام قاصراً أمام وصف الشعور لكنني أشعر أن هذه الكلمة كافية جداً لوصف حال قلبي، قلبي المتصدع. اليوم، يوم تخرجي من مرحلة الماستر، كاشفت إحدى الفتيات التي أصبحت صديقة مقربة بعد زمالة دراسية بالشعور الذي أشعر به، وبكل ماقمت به كي لا تشكل تجربتي العاطفية التي حدثت في وقت صعب عائقاً عن تقديم أفضل مالدي. يشبه هذا الأمر الانتصارات الصغيرة التي نحتفي بها مع أنفسنا فقط، لأننا الوحيدون القادرون على تقدير حجم الألم الذي عايشناه لنتجاوز ماحدث. كانت ردة فعلها بسيطة جداً ومتمثلة في جملة قصيرة تشرح كل التناقضات الكامنة في الحدث: “أنتي عاطفية جداً لكنك بالمقابل قوية جداً”. هذه الجملة تحديداً بإمكانها توضيح السبب القائم خلف كفاية مفردة الصَّدْعُ لوصف ماحدث بقلبي.
مثلما يفعل الكثيرين في الأيام الأخيرة من السنة، أحاول استغلال هبوب النسمات الباردة بأبسط الوسائل الممكنة. في أحد أيام إجازتي الدراسية إلا من أشغال البحث العلمي، اُعد كوب شاي الظهيرة المعتاد، اخرج إلى “حوش” منزلنا، واحمل أحد كتبي التي لا أفكر في التخلص من عادة قراءتها ببطء شديد. ولا أنسى توثيق اللحظة بالتأكيد!
قاومت رغبة عارمة في الخروج من الذات، وعاهدت نفسي على عدم استخدام الآخرين كـ وسائل للهروب من دواخلي الشاسعة و المظلمة. أرغمت نفسي على البقاء وحيدة لأنني أيقنت أن الحزن لابد أن يُعاش كما يُعاش الفرح. لم أجد أي دلالة على القوة في فكرة السخرية من الحزن والخروج للعالم بضحكة واسعة بينما صدري ضيقٌ جداً. كانت ولا زالت القوة في نظري البقاء مع الألم في الداخل ومواجهته واستكشاف مساحات التيه، والضياع في الظلام دون التفكير في الضوء المحتمل في آخر النفق لأن النجاة غالباً ما تحدث صدفة،وتظهر في أشكال شتى لا يمكن توقعها، تماماً مثل اللطف الخفي. حاولت امتلاك الشجاعة الكافية لأن أراني وأنا أنزل للقاع، وأنا أملك أجنحة متكسرة. ببساطة بالغة أردت أن أكون قوية بما يكفي لأتقبل كوني ضعيفة. استرسلت مع مخاوفي حتى الرابعة فجراً وأنا استمع لصوتي الداخلي وهو يرددها واحدة تلو الأخرى. كنت أشعر بالخوف، ولأنني أخاف الاحتمالات الكثيرة فكرت جدياً في تلك المخاوف. حاولت بسذاجة أن أقول لنفسي “لا تخافي” كأمٍ تحاول تهدئة صغيرها. لا زلت حتى الآن أحاول أن أتعلم “الطمأنينة” أو بالأحرى الكذب على الذات بأن لا شيء يثير الخوف.
(6)
أصل الأشياء
أضعت الكثير من الوقت لأنني في كل مرة أشعر بالعجز أعود لنقطة البداية المزعومة لأحاول الفهم من جديد. لطالما أردت أن أفهم الأشياء من أصلها. أريد الحصول على المعنى في صورته النقية المجردة من خبراتي السابقة وكأن الأشياء لم توجد من قبل وهاهي تتكون انطلاقاً من النقطة التي بدأت الرؤية منها. متعبة من العودة للبداية التي ظننت ولازلت أظن أنها البداية الحقيقية و كأنني عالقة في عجلة هامستر لا تتوقف،و كأن العالم مضمار سباق دائري. قد لا تكون هذه النقطة هي البداية ولكنها فقط النقطة التي بدأت افكر منها. أحاول على الأقل العودة إلى نقطة أشعر بها أن الكثير لم يفتني ولكن دون جدوى.
يقال أن الكتابة هي الطريقة المهذبة للبكاء. اكتب الان و حرارة تفوح من جسدي بسبب الجرعة الثانية من لقاح المرض المستجد. سيل من المشاعر السلبية يراودني. عادةً اثرثر في حسابي في تويتر لكن وفي كثير من الأحيان أخشى من الشعور بالشفقة. لم يحدث في يوم ما أن جربت شكل من أشكال الألم الحقيقي وبسبب ذلك أغرق في شعوري بالامتنان لله عزوجل. يؤلمني جداً كون حزني تافهاً ويؤلمني كونه يظهر في صورة أكبر من أحلامي.
يؤلمني الوهم, الحقيقة، الجهل، المعرفة، المضي قدماً، العودة للوراء، الوفرة، والنقص… هذا التضاد المغروس في أصل كل شيء يؤلمني. يؤلمني الآن أني اكتب نصاً غير لائق وأنشره لأوقف سيل مشاعري. يؤلمني أنني افتقد الشجاعة لأكون “أنا” وسط هذا الزيف و يؤلمني احتمال أن هذا قد لا يكون زيفاً لأنني قد أكون أنا المزيفة. تؤلمني الاحتمالات!
ولكنني سعيدة لكوني أكتب مجدداً، ولكوني قادرة على خلق حالة تمرد ناحية مشاعري لأتخلص من سطوتها على قلبي. بإمكاني اعتباري هذا النص إشارة للبدء من جديد في عملية البحث عن الذات واستعادة أشلائها المتناثرة على خط الزمن.